قبل ان تكتسي ازقة قريتنا بالقار الاسود وقبل ان نرتدي بدلة الحضارة المزيفة كان للحياة طعم آخر كانت قطيع الغنم تملأ القرية بثغائها ونباح الكلاب تحرسها من كل سارق ومارق وصياح الديكة يشق سكون الليل معلنا بداية يوم جديد كان الثغاء صادرا من كل بيت الا القلة قبل ان تنير انوار الفجر خطوط الافق كانت كل القرية تصحو دون ساعات تنبيه كانت امي تقوم قبل الجميع بفطرة الامومة المودعة فيها لتعد للجميع كل ما يحتاجونه آه ما اطيب الامهات القديمات بعد صلاة الفجر والجو ما زال يمتزج ببرد الصباح والندى الغراق في كل مكان اخرج مع امي الى مراح الغنم لتحلب الماعز والنعاج وعينها تترقب درة بقرتها الحلوب وبعد ذلك اراها تقرفص ودلو الحليب امامها تفرك درة بقرتها وتسمي الله قبل كل شيء وتدعو بالبركة ثم تبدأ خطوط الحليب باختراق صمت الصباح تصرصر في جوف طاستها الحديد وكم كنت اترقب متى اغترف من حليب النعجة لمذاقه الدسم وطعم كل الاعشاب فيه وارى الرغوة تحاول الفرار من وجه الطاسةالممتلئ لنستقبل الصباح ببياض الحليب وقبله بياض قلب امي ورقته في دعواتها لنا بالتوفيق قبل الذهاب الى المدرسة البعض يقوم بتكاسل فكم تمنينا ان يطول بنا النوم حتى تشرق شمس الصباح ولكن هيهات فكل واحد له مهمة قبل الذهاب الى المدرسة ما ان تشرق الشمس وتخترق اشعتها سهول القرية وجبالها حتى يعم السكون فقد ذهب الاولاد والبنات الى مدارسهم وخرج الرعاة باغنامهم ولم يبقى في القرية الا صغار البهم الفطايم وهم صغار الخراف والماعز والعجل المولود منذو فترة وجيزه وهذه تلعب مع بعضها وتتسلى انتظارا لعودة امهاتها عند الغروب لتملأ الدنيا ثغاء مرة اخرى اما امي فلديها من العمل الكثير لتنجزه قبل ان يضحي النهار وتستقر الشمس في وسط السماء وتفكر في كيف تعد طعام الغداء قبل ان تجتمع المزون وتدك الرعود وتسيل الوديان بالسيول فسقاك الله من ديره كان يسكنها اسود وكنا نحمل كتبنا فوق رؤسنا حتى نقيها ظرب الثعول والبروق وامي تقف بجوار السور تصول وتجول خوفاً علينا من كثرة المطر في فصل الربيع وكنت اذهب وبسرعة لشرب اللبن الذي لم يغب عن بالي منذو الصباح الباكر فقد كانت وسيلة حفظه ان يوضع في شكوة المعلقة باحكام في مكان ظليل وتبقى رطبة باردة بعد ان تضع على فمها بعض الاعشاب النعناع وخوط ريحان لتكتسب مذاقا رائعا كلما زادت كمية اللبن بمرور الايام يصبح لزاما عليها ان تخضه ليتحول الى زبد وشنينه وهي عملية تتطلب منا المساعدة بعد اضافة الماء البارد من خابية الماء الملفعة بالخيش المبلول الى بطن الشكوة لتجتمع حبيبات الزبدة وهذا كله قبل ان تطل علينا التقنية الحديثة بالخضاضات الكهربائية التي سهلت العملية ولكنها افسدت الطعم الجميل كم احن الى رائحة الدباغ المتسرب من جلد صغار الماعز وهو يلون الارض تحتها بقطراته وتستمر رحلة الخضيض بسواعد امي التي لا تعرف الكلل وكأن الماعز جدي سمين يتمرغ على الارض في يوم ربيعي مشمس ما ان تنتهي امي من خض اللبن حتى تقف بعد ان أعياها الجلوس ثم تحضر اناء كبيرا لتفرغ فيه بحذرالشنينه دون ان تسمح للزبدة بالخروج ثم ترج الشكوة جيدا وتقلبها لتخرج ما في جعبتها من زبدة وبقايا شنينة فتختلط ضحكاتنا مع ابتسامة امي وكل منا حضر لنفسه قطعة خبز ندهنها بالزبدة ونتفرق في ارجاء البيت نلتهمها مع بقايا كأس ماء ثم تنظف امي الشكوة وتعيد تمليحها وتثنيها برفق وحنان لتعلقها مرة اخرى لتنهمر منها قطرات الماء محملة بالملح وكانها الدموع تلك الايام كانت احلى من عيون الماء واصفى من الزبدة وجلساتها اجمل من البدر ضحكاتنا كانت بريئة كانت ايام بركة وخير أمي لقد كنت مصدر الحياة لنا وقنديلها الذي اضاء لنا الطريق اطال الله بقائك يا امي يا رمز الحنان وفي ختام مقالي انظرو الى القرية الان اين ذهبت الاغنام لقد ضاعت الشكوة وكل ماكان يصول ويجول نخرها الدود وكأنني اسمع بكاء النمل على تلك الايام وبكائناآه كم نحن الى تلك الايام السعيدة لقد هربت من بين ايدينا كما هرب الماء من الابار ورحل النمل ولم يبقى له اثار كم اتحسر على جهلنا وتفريطنا
__________________
أنا وشلون أعيش أن مـآ لقيتك ..!!
تذكرت الغ ـيـآب وضـآق بـآلي ..