بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فما أجمل الثبات على المبدأ , وما أقبح أن يتقلب الرجل مع الهوى , ويكون كالغصن في اليوم العاصف , يميل حيث تميل الريح , والمعصوم من عصمه الله , والثبات على المبدأ الحق منحة من الله ليس كل أحد يُهدى إليه .
ليس للثبات على المبادىء مُتَعَلَّق بجسم الإنسان وهيئته , ولا ببلاغته وفصاحته , ولا بجاهه ومكانته , فقد تجد رجلاً نحيلاً , تعجب من دقة ساقيه , وقصر قامته , وتلعثم لسانه , ولكنه عند الله بمكان لايخطر لأحد على بال , وقد يُعزُّ الله به الدين , وينصر به الملة , ويكون أثبت في مواقفه , وأجرأ في قول مايعتقده من الحق , من الجبال الرواسي , ومن ملء الأرض من الخشب المسندة , الذين تعجبك أجسادهم , وإن يقولوا تسمع لقولهم , في حين قد ترى من نافس في خلقته البغال , وفي تقعُّر منطقه الكهان , وهو في المكانة مكين , لكنه معول هدم في الأمة , وإن زعم أنه من المصلحين , ونبتة سوء وإن ظن أنه شجرة مثمرة .
لاعجب إن رأيت من يتباكى على قضايا الأمة , أو ينبَحُّ صوته في دعوى الدفاع عنها , وهو كذاب أشر , كالتمساح الذي يخدع فريسته بكاذب الدمع , وما أشبه حديثه بمواعظ الثعالب , وهذا مما يكشفه الواقع , ولايمكن أن يخفيه السجع وغريب اللفظ , أو تزوير الحقائق , بتنميق العبارات .
المثاليات , وما أدراك مالمثاليات ! , إنها بحقٍّ مظلومة مجنيٌّ عليها , والظلم الواقع عليها عظيم , لأنه جاء ممن يُظنُّ فيه غير ذلك :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة **** على النفس من وقع الحسام المهند
قد يتشدق بعضهم بدعوى البعد عن التصنيف , ثم تراه يقسم المجتمع إلى قسمين , قسم غوغائي فتَّان ذي مسلك خبيث , ومنهج خطير , وماذاك إلا لأنه تعرض له بالنقد , وعرض قوله على ميزان الاعتدال , فبان من خلاله خلله , وظهر بسببه نتنه , وقسم منصف , صادع بالحق , محب للعدل , غيور على الأمة , لأنه أثنى عليه وامتدحه , أو نافقه وجامله , فهو في ميزان التصنيف أخس ممن انبرى لنقده , وهكذا هو في التنظير إمام فاهم , وعند التطبيق ظالم غاشم .
وقد تسمع من ينهى عن تلقف الإشاعات , أو الحكم على الناس لأجلها , أو الأمور من خلالها , وهذه مثالية , لكنه لايرى بأساً في تكذيب الثقات الأثبات , ولايتورع أن يصف الفسقة بالأمناء , ولا مانع لديه لأجل المصلحة الخاصة , أن يبالغ في الثناء الممجوج , ويكيل التهم للمخالفين , ويصفهم بأبشع الأوصاف .
وقد تجد من يدعو للمجاهدين , ويتباكى على أحوال المسلمين , ويُظهر التحسُّر على نكباتهم ومصائبهم , ولكنه لايجد غضاضة من مناشدة الهيئات الدولية , وصنَّاع القرار كما يسميها , التي هي سبب كل تلك النكبات , أو لا يرى حرجاً في وصف المنظمات الكفرية بالشرعية الدولية , وأعداء الملة بالحكماء , بل ربما اصطف يدعو لهم أدبار الصلوات بالنصر والتمكين , والعز والتأييد عياذا بالله .
قد تلقاه فاغراً فاه يحذِّر من الإقصائية , ويُشنع على الإقصائيين , لكنه حين تخالفه الرأي , أو تقول بغير قوله , حتى وإن كان قوله مجانباً للصواب على أحسن الاحتمالات , هذا إن سلم من الكذب والمخادعة والنفاق , أقصاك إقصاءً لاحدَّ له , وجعلك من أهل الدسائس والأهواء , والفتنة واللغواء , وتأليب الدهماء , وإثارة العامة والغوغاء .
وربما تحدث عن الأمانة , وشرَّق فيها وغرَّب , ثم تتفاجأ به وقد خانها بكلماته , وانتهك حماها بأفعاله , وكشف سترها بمواقفه المخزية , فلا أمانة الكلمة رعى , ولا أمانة المكان حفظ , ولا أمانة النقل أدَّى , ولا أمانة العلم صان , ولا أمانة الحقوق احترم .
ولربما سمعته يُزَهِّد الناس في الدنيا , ويذكر لهم من صور حقارتها ووضاعتها , ما تلين له الجبال الصم , أو يُسمعهم من آيات الحث على التقلل منها , وأحاديث الحذر من فتنتها , ما يجعلك تظن في نفسك أنك لو أقسمت لماحنثت , من أنه ليس له فيها إلا مايقيم صلبه , ويواري سوأته , ويحمل رجله , وإذا به قد خاض في وحلها حتى بلغ من حاله أنه إذا خاصم لأجلها فجر , وإذا عاهد غدر!! .
قد يُشهِد الله على مافي قلبه , وهو ألدُّ الخصام , وقد يقول قولاً تكسوه الدمعة , وتُجلِّله الرقة , ويُدَثِّره الخشوع , فتظن أنه لايرجو فيه إلا الله والدار الآخرة , فتبتدره لحسن الظن , والرغبة في الخير , وتحاول نشره بين الناس , لثقتك به , واستعظامك أن يقع من مثله الغش لأحد من المسلمين , بَله معظمهم , فيقال لك : ماهذا التناقض المفضوح , والكذب البيِّن , لقد سمعنا منه قبل ذلك , التشنيع على من قال بما جئتنا به من عنده , وذاكرتنا لازالت تحفظ تناقضه ودجله .
قد يحلف أنه لم يرد غير براءة الذمة , فتظن أنه كالمودع على فراش الموت , فتصدِّقه وتثق به , فإذا نظرت في حاله , هالك ماترى , فذمته من حقوق الناس الخاصة لا زالت مشغولة , وسيرته في ذلك قبيحة مرذولة , ومن كانت هذه حاله , فكيف يظن فيه براءة الذمة في الحقوق العامة , أو الحقوق الشرعية !! .
قد يسلب لُبَّك بحسن تحليله للأمور , وتشخيصه للواقع , وتقريره أن مايراد من وراء بعص الصراعات المفتعلة في رأيه , إنما هو لإشغال المسلمين عن قضاياهم الكبرى , فإذا ما أتيحت له فرصة للحديث والتصدُّر , فلا تراه إلا وقد اختزل قضايا الأمة في قضيته , وكأنه هو الأمة وحده , فصار يبدي في ذلك ويعيد , ويرغي ويزبد .
لربما سمعته يطالب بإنصاف الخصم , والبعد عن التهويل , ولكنه يضع تلك المثالية تحت قدميه , ويرجع إلى نقيض ماطالب به , بل ربما تقوَّل زوراً على خصمه , أو حاول زيادة على التزوير والتهويل التأليب والاستعداء , وتلك عورات لايواريها النحيب والتَّخشُّع , ولا التَّصنُّع المكشوف .
قد يأمرك بالصبر , ويُذكِّرك بما أعدَّه الله للصابرين , لكنه ينقلب إلى نائحة ثكلى , ومستأجرة مرة أخرى , عند أدنى هيعة , أو مع أول سهم طائش .
ليس هذا فحسب , بل قد تظن من هول شكواه وأنينه , أنه قد وتر أهله وماله , وعُزِّي في أمناء أمته وأهل الفضل فيهم .
كما لايفوته أن يوصيك بالصدق , وإحسان الظن , فتتفاجأ به يكذب الكذبة ويُصدِّقها , ويبني عليها ناطحات من سحاب التهويل , وشواهق الأباطيل , فلايترك ظنَّا قبيحا بمخالفه إلا ألحقه به , وزاد عليه فوق ذلك عشرة أضعافه , تصدُّقا منه وفضلاً .
وقد يشتدُّ حماسة , ويكاد يسقط مغشيَّاً عليه من فرط الانفعال , وهو يقرر قضية حسن الولاء , وصدق الطاعة , وربما جاوز في ذلك المشروع من الأفعال والأقوال , لكنه .....
وهنا أقف , لأن هذه وغيرها من المثاليات , تحتاج منا إلى مزيد إيضاح وتجلية , والله الموفق .
وكتبه
سليمان بن أحمد بن عبدالعزيز الدويش
أبو مالك